عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، فتجوّز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوّزت فزعم أني منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا معاذ أفتّان أنت؟- قالها ثلاثاً-، اقرأ {والشمس وضحاها} و{سبّح اسم ربك الأعلى}، ونحوها» متفق عليه واللفظ للبخاري.
وفي رواية أخرى: «فلولا صليت بسبح اسم ربك والشمس وضحاها والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة».
وفي رواية مسلم: «فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف».
[] معاني المفردات:
= فتجوّز: أي خفف صلاته.
= بنواضحنا: جمع ناضح وهو البعير الذي يستعمل في سقي الزروع.
= فإنحرف رجل: أي إنفرد في صلاته.
[] تفاصيل الموقف:
الصلاة بالمسلمين، وقراءة سورة البقرة، والوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، أمورٌ ثلاثةٌ تبوّأت مكانة عظيمة في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالإمامة مسؤوليّة عظيمة دعا النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابها، وسورة البقرة من أكبر سور القرآن وتتضمّن أعظم آية فيه، والوقوف بين يدي الله والإستغراق في ذكره وإطالة الوقوف بين يديه عبادة لا يضاهيها عمل.
وهذه الشعب الإيمانية إجتمعت في شخص أفقه الصحابة وأعلمهم بالحلال والحرام، ومحبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صَرّح له، وأحد النفر الستّة الذين جمعوا القرآن الكريم في العهد النبوي، ومن القلّة القليلة التي إمتازت بحدّة الذكاء وسعة الدراية وقوّة الفطنة، ذلكم هو معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه.
من هنا نستطيع أن نفهم سرّ العادة التي إكتسبها معاذ رضي الله عنه، وهي أنه كان يصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفريضة، ثم ينطلق مسرعاً إلى مسجدٍ في نواحي المدينة ليصلّي بهم تلك الصلاة إماماً، غير مبالٍ بمشقّة الذهاب والإياب كلّ يوم.
ويبدو أن الدعاء الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلّم لمعاذ أن يقوله دبر كلّ صلاة: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» قد ترك فيه أثراً ظاهراً، فكانت صلاته بالناس طويلة وكثيرة القراءة، وما ذاك إلا إحساناً لعبادته وإتقاناً لعمله.
لكن حدثاً بعينه غيّر وتيرة النمط الذي كان ينتهجه معاذ بن جبل رضي الله عنه ويسير عليه في إمامته، ففي إحدى الليالي وبعد أن فرغ رضي الله عنه من صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، إنطلق إلى المسجد الآخر كعادته ليؤم المسلمين، وشرع في قراءة سورة البقرة، وإستطرد في قراءتها، وفي القوم رجلٌ من عوام المسلمين الذين يكدّون طوال اليوم بالأعمال الحِرَفيّة الشاقة، والتي تتطلّب منهم جهداً ووقتاً، ولذلك إستثقل الرجل طول الصلاة ورأى أنها ستؤخّره عن أعماله وستُربِك جدول مهامّه، فإنفرد الرجل فأتمّ الصلاة لوحده ثم إنصرف.
ويصل الخبر إلى إمام القوم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن أحد المصلّين ترك الصلاة خلفه فأنكر فعله، إذ أن صلاة الجماعة تصهر المؤمنين جميعاً فتجعلهم كالجسد الواحد، وهذا الصنيع قد يُفسّر بالمعارضة والرغبة في إثارة الفتن وإشاعتها بين المسلمين، ومثل هذه التصرّفات مشهورةٌ عن جماعة المنافقين الحريصين على كسر وحدة الصفّ الإسلامي والتاريخ يشهد، ولذلك لم يتردّد معاذ رضي الله عنه في الحكم على الرجل بأنه من المنافقين.
ويُصدم الرجل بمقولة معاذ رضي الله عنه، ويحاول أن يدفع التهمة عن نفسه، لكن دفاعه لم يجد له صدىً، وهنا: إشدّ عليه الكرب، وحلّ به الهمّ، فإنطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبره بما دار، ويعتذر مما صنع، محتجّاً بما يتطلّبه العمل في الزراعة من أوقات كثيرة لا يمكن معها الإسترسال في الصلاة والتطويل فيها، فلماذا إذن يصدر عليه معاذ ذلك الحكم الجائر بالنفاق؟!.
ولا تسل عن غضب النبي صلى الله عليه وسلم وإستيائه من موقف معاذ، والذي يُنبئ عن التسرّع في الحكم، وعدم تقدير ظروف الآخرين، فيُعاتبه لذلك أشدّ عتاب: «يا معاذ أفتّان أنت؟»- قالها ثلاثاً- ثم يوجّهه إلى قراءة السور القصار كالشمس والليل والأعلى ونحوها مما يتناسب مع كبار السنّ والضعفة من المسلمين وأصحاب الحاجات، وكان الجواب العمليّ لمعاذ رضي الله عنه السمع والطاعة، وسرعة الرجوع إلى الحق والتزامه، وهذا هو شأن النفوس الكريمة، فرضي الله عن ذلك الجيل العظيم.
[] إضاءات على الموقف:
تكلّم العلماء في هذا الحديث النبويّ من الناحية السلوكيّة والناحية الفقهيّة.
ـ أما الناحية السلوكيّة: فهو التأكيد على ضرورة أن يعلم الإمام أحوال المأمومين خلفه وأن يراعيها، فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، والمجتمعات تختلف، والظروف تتباين، فقد يقع المسجد في وسط السوق أو قرب المصانع أو بجانب المزارع والحقول فيتوجّه حينها قصر الصلاة وعدم تطويلها، وقد يكون في موطن يغلب فيه طلّاب العلم وأصحاب العبادة فيمكن حينها للإمام أن يزيد من مقدار صلاته.
فالحاصل أن الإمام يوازن بين مقدار قراءته وبين طبيعة المصلّين خلفه ونشاطهم، وبإدراك هذه القضيّة نستطيع أن نفهم التفاوت المذكور في مقدار قراءات النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته الواردة في كتب السنة، فلربما قرأ في المغرب بالطور، ولربما قرأ فيها بالمعوذتين، وكم بين الطور وبين المعوذتين من تفاوت.
ومما ينبغي للأئمة التنبّه له: أن كثرة المصلين مظنّة وجود ذوي الأعذار، ومتى ما تبيّن له وجود ذوي الأعذار خلفه -ولو بعد الشروع في الصلاة- فعليه أن يُخفّف من صلاته، ولقد كان من هدي نبيّنا صلى الله عليه وسلّم أنه كان يدخل الصلاة وينوي الإطالة، فيسمع بكاء الأطفال من بين الصفوف فيخفّف لأجل ذلك من صلاته رحمةً بأمّهاتهم.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ أفتّان أنت؟» نهيٌ عن كل ما يُنفّر عن الدين ويصد عن سبيله أو يوقع الناس في الفتنة سواءٌ أكان بالقول أم بالفعل، وقلّ ما يتنبّه الدعاة لهذه اللفتة النبويّة خصوصاً عند التعامل مع المهتدين الجدد.
ـ وبخصوص الناحية الفقهيّة من القصّة، فقد إستدلّ العلماء به على جواز إختلاف نيّة المأموم والإمام كأن يُصلّي الإمام بنيّة النفل والمأموم بنيّة الفرض أو عكسه، والحديث الذي بين يدينا عمدةٌ في هذا الباب، كما إستدلّوا به على أن المأموم إذا شقّت عليه متابعة الصلاة في الجماعة، بإجهادٍ أو غلبة نعاسٍ أو خشية أن يعدو الذئب على غنمه أو هروب دابّته ونحو ذلك، فله أن يفارق الجماعة ويتمّ الصلاة لوحده.
المصدر: موقع إسلام ويب.